فصل: تفسير الآية رقم (115)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 107‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ‏(‏105‏)‏ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ‏(‏106‏)‏ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ‏(‏107‏)‏‏}‏

جملة ‏{‏ألم تكن آياتي تتلى عليكم‏}‏ مقول قول محذوف، أي يقال لهم يومئذ‏.‏ وهذا تعرض لبعض ما يجري يومئذ‏.‏ والآيات‏:‏ آيات القرآن بقرينة قوله ‏{‏تتلى عليكم‏}‏ وقوله ‏{‏فكنتم بها تكذبون‏}‏ حملاً على ظاهر اللفظ‏.‏

والتلاوة‏:‏ القراءة‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان‏}‏ في البقرة ‏(‏102‏)‏، وقوله‏:‏ إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً في سورة الأنفال ‏(‏2‏)‏‏.‏ والاستفهام إنكار‏.‏

والغلب حقيقته‏:‏ الاستيلاء والقهر‏.‏ وأطلق هنا على التلبس بالشقوة دون التلبس بالسعادة‏.‏ ومفعول غلبت‏}‏ محذوف يدل عليه ‏{‏شقوتنا‏}‏ لأن الشقوة تقابلها السعادة، أي غلبت شقوتنا السعادة‏.‏ والمجرور ب ‏(‏على‏)‏ بعد مادة الغلب هو الشيء المتغالب عليه كما في الحديث «قال النساء‏:‏ غلبنا عليك الرجال»‏.‏ مُثِّلَت حالة اختيارهم لأسباب الشقوة بدل أسباب السعادة بحالة غائرة بين السعادة والشقاوة على نفوسهم‏.‏ وإضافة الشقوة إلى ضميرهم لاختصاصها بهم حين صارت غالبة عليهم‏.‏

والشِّقوة بكسر الشين وسكون القاف في قراءة الجمهور‏.‏ وهي زنة الهيئة من الشقاء‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وخلف ‏{‏شقاوتنا‏}‏ بفتح الشين وبألف بعد القاف وهو مصدر على صيغة الفعالة مثل الجزالة والسذاجة‏.‏ وزيادة قوله ‏{‏قوماً‏}‏ على أن الضلالة من شيمتهم وبها قوام قوميتهم كما تقدم عند قوله ‏{‏لآيات لقوم يعقلون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏ وعند قوله ‏{‏وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون‏}‏ في آخر سورة يونس ‏(‏101‏)‏‏.‏

وهم ظنوا أنهم إن أخرجوا من النار رجعوا إلى الإيمان والعمل الصالح فالتزموا لله بأنهم لا يعودون إلى الكفر والتكذيب‏.‏

وحذف متعلق عدنا‏}‏ لظهوره من المقام إذ كان إلقاؤهم في النار لأجل الإشراك والتكذيب كما دل عليه قولهم ‏{‏وكنا قوماً ضالين‏}‏‏.‏

والظلم في ‏{‏فإنا ظالمون‏}‏ هو تجاوز العدل، والمراد ظلم آخر بعد ظلمهم الأول وهو الذي ينقطع عنده سؤال العفو‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏108- 111‏]‏

‏{‏قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ‏(‏108‏)‏ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏109‏)‏ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ‏(‏110‏)‏ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

‏{‏اخسئوا‏}‏ زجر وشتم بأنهم خاسئون، ومعناه عدم استجابة طلبهم‏.‏ وفعل خسأ من باب منع ومعناه ذل‏.‏ ونهوا عن خطاب الله والمقصود تأييسهم من النجاة مما هم فيه‏.‏

وجملة ‏{‏إنه كان فريق من عبادي‏}‏ إلى آخرها استئناف قصد منه إغاظتهم بمقابلة حالهم يوم العذاب بحال الذين أنعم الله عليهم، وتحسيرُهم على ما كانوا يعاملون به المسلمين‏.‏

والإخبار في قوله‏:‏ ‏{‏إنه كان فريق من عبادي‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏سخرياً‏}‏ مستعمل في كون المتكلم عالماً بمضمون الخبر بقرينة أن المخاطب يعلم أحوال نفسه‏.‏ وتأكيد الخبر ب ‏(‏إن‏)‏ وضمير الشأن للتعجيل بإرهابهم‏.‏

وجملة ‏{‏إنى جزيتهم‏}‏ خبر ‏(‏إن‏)‏ الأولى لزيادة التأكيد‏.‏ وتقدم نظيره في قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً‏}‏ في سورة الكهف ‏(‏30‏)‏‏.‏

والسخري بضم السين في قراءة نافع والكسائي وأبي جعفر وخلف، وبكسر السين في قراءة الباقين، وهما وجهان ومعناهما واحد عند المحققين من أيمة اللغة لا فرق بينهما خلافاً لأبي عبيدة والكسائي والفراء الذين جعلوا المكسور مأخوذاً من سخر بمعنى هزأ، والمضموم مأخوذاً من السخرة بضم السين وهي الاستخدام بلا أجر‏.‏ فلما قصد منه المبالغة في حصول المصدر أدخلت ياء النسبة كما يقال‏:‏ الخصوصية لمصدر الخصوص‏.‏

وسلط الاتخاذ على المصدر للمبالغة كما يوصف بالمصدر‏.‏ والمعنى‏:‏ اتخذتموهم مسخوراً بهم، فنصب سخرياً‏}‏ على أنه مفعول ثان ل ‏{‏اتخذتموهم‏}‏‏.‏

و ‏{‏حتى‏}‏ ابتدائية ومعنى ‏(‏حتى‏)‏ الابتدائية معنى فاء السببية فهي استعارة تبعية‏.‏ شبه التسبب القوي بالغاية فاستعملت فيه ‏(‏حتى‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أنكم لهوتم عن التأمل فيما جاء به القرآن من الذكر، لأنهم سخروا منهم لأجل أنهم مسلمون فقد سخروا من الدين الذي كان اتباعهم إياه سبب السخرية بهم فكيف يرجى من هؤلاء التذكر بذلك الذكر وهو من دواعي السخرية بأهله‏.‏ وتقدم الكلام على فعل ‏(‏سخر‏)‏ عند قوله‏:‏ ‏{‏فحاق بالذين سخروا منهم‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏10‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يسخرون منهم‏}‏ في سورة براءة ‏(‏79‏)‏‏.‏

فإسناد الإنساء إلى الفريق مجاز عقلي لأنهم سببه، أو هو مجاز بالحذف بتقدير‏:‏ حتى أنساكم السخري بهم ذكري‏.‏ والقرينة على الأول معنوية وعلى الثاني لفظية‏.‏

وقوله‏:‏ أنهم هم الفائزون‏}‏ قرأه الجمهور بفتح همزة ‏(‏أن‏)‏ على معنى المصدرية والتأكيد، أي جزيتهم بأنهم‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي بكسر همزة ‏(‏إن‏)‏ على التأكيد فقط فتكون استئنافاً بيانياً للجزاء‏.‏

وضمير الفصل للاختصاص، أي هم الفائزون لا أنتم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بما صبروا‏}‏ إدماج للتنويه بالصبر، والتنبيه على أن سخريتهم بهم كانت سبباً في صبرهم الذي أكسبهم الجزاء‏.‏ وفي ذلك زيادة تلهيف للمخاطبين بأن كانوا هم السبب في ضر أنفسهم ونفع من كانوا يعدّونهم أعداءهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏112- 114‏]‏

‏{‏قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ‏(‏112‏)‏ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ‏(‏113‏)‏ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏114‏)‏‏}‏

قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏قال كم لبثتم‏}‏ بصيغة الماضي فيتعين أن هذا القول يقع عند النفخ في الصور وحياة الأموات من الأرض، فالأظهر أن يكون هو جواب ‏(‏إذا‏)‏ في قوله فيما سبق ‏{‏فإذا نفخ في الصور‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 101‏]‏‏.‏ والتقدير‏:‏ قال الله لهم إذا نفخ في الصور‏.‏ كم لبثتم في الأرض عدد سنين‏.‏ وما بينهما اعتراضات نشأت بالتفريع والعطف والحال والمقاولات العارضة في خلال ذلك كما علمته مما تقدم في تفسير تلك الآي‏.‏ وليس من المناسب أن يكون هذا القول حاصلاً بعد دخول الكافرين النار، والمفسرون الذين حملوه على ذلك تكلفوا ما لا يناسب انتظام المعاني‏.‏

وقرأه ابن كثير وحمزة والكسائي ‏{‏قل‏}‏ بصيغة الأمر‏.‏ والخطاب للملَك الموكل بإحياء الأموات‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏فسئل العادين‏}‏ تفريع على جملة‏:‏ ‏{‏لبثنا يوماً أو بعض يوم‏}‏ لما تضمنته من ترددهم في تقدير مدة لبثهم في الأرض‏.‏ وأرى في تفسير ذلك أنهم جاءوا في كلامهم بما كان معتادهم في حياتهم في الدنيا من عدم ضبط حساب السنين إذ كان علم موافقة السنين القمرية للسنين الشمسية تقوم به بنو كنانة الذين بيدهم النسيء ويلقبون بالنسَأة، قال الكناني‏:‏

ونحن الناسئون على معدّ *** شهور الحل نجعلها حراما

والمفسرون جعلوا المراد من العادّين الملائكة أو الناس الذين يتذكرون حساب مدة المكث‏.‏ ولكن القرطبي قال‏:‏ أي سللِ الحُسَّاب الذين يعرفون ذلك فإنا نسيناه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قال إن لبثتم إلا قليلاً‏}‏ قرأه الجمهور كما قرأوا الذي قبله فهو حكاية للمحاورة فلذلك لم يعطف فعل ‏{‏قال إن لبثتم إلا قليلاً‏}‏ وهي طريقة حكاية المحاورات كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏30‏)‏‏.‏ وقرأه ابن كثير وحمزة والكسائي بصيغة الأمر كالذي قبله‏.‏

والاستفهام عن عدد سنوات المكث في الأرض مستعمل في التنبيه ليظهر لهم خطؤهم إذ كانوا يزعمون أنهم إذا دفنوا في الأرض لا يخرجون منها‏.‏

وانتصب ‏{‏عدد سنين‏}‏ على التمييز ل ‏{‏كم‏}‏ الاستفهامية والتمييز إنما هو ‏{‏سنين‏}‏‏.‏ وإضافة لفظ ‏{‏عدد‏}‏ إليه تأكيد لمضمون ‏(‏كم‏)‏ لأن ‏(‏كم‏)‏ اسم استفهام عن العدد فذكر لفظ ‏{‏عدد‏}‏ معها تأكيد لبعض مدلولها‏.‏

وجوابهم يقتضي أنهم تحققوا أنهم كانوا في الأرض وأنهم لم يتذكروا طول مدة مكثهم على تفاوت فيها‏.‏ والظاهر أن المراد بقولهم ‏{‏يوماً أو بعض يوم‏}‏ أنهم قدروا مدة مكثهم في باطن الأرض بنحو يوم من الأيام المعهودة لديهم في الدنيا كما دل عليه قوله تعالى في سورة الروم ‏(‏55‏)‏ ‏{‏ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة‏.‏‏}‏ ولم يعرج المفسرون على تبيين المقصد من سؤالهم وإجابتهم عنه وتعقيبه بما يقرره في الظاهر‏.‏ والذي لاح لي في ذلك أن إيقافهم على ضلال اعتقادهم الماضي جيء به في قالب السؤال عن مدة مكثهم في الأرض كناية عن ثبوت خروجهم من الأرض أحياءً وهو ما كانوا ينكرونه، وكناية عن خطأ استدلالهم على إبطال البعث باستحالة رجوع الحياة إلى عظام ورفات‏.‏

وهي حالة لا تقتضي مدة قرن واحد فكيف وقد أعيدت إليهم الحياة بعد أن بقوا قروناً كثيرة، فذلك أدل وأظهر في سعة القدرة الإلهية وأدخل في إبطال شبهتهم إذ قد تبين بطلانها فيما هو أكثر مما قدروه من علة استحالة عود الحياة إليهم‏.‏

وقد دل على هذا قوله في آخر الآية ‏{‏أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 115‏]‏ وقد ألجأهم الله إلى إظهار اعتقادهم قِصرَ المدة التي بقوها زيادة في تشويه خطإهم فإنهم لمّا أحسوا من أنفسهم أنهم صاروا أحياء كحياتهم الأولى وعاد لهم تفكيرهم القديم الذي ماتوا عليه، وكانوا يتوهمون أنهم إذا فنيت أجسادهم لا تعود إليهم الحياة أوهمهم كمالُ أجسادهم أنهم ما مكثوا في الأرض إلا زمناً يسيراً لا يتغير في مثله الهيكل الجثماني فبنوا على أصل شبهتهم الخاطئة خطأ آخر‏.‏

وأما قولهم‏:‏ ‏{‏فسئل العادين‏}‏ فهو اعتراف بأنهم لم يضبطوا مدة مكثهم فأحالوا السائل على من يضبط ذلك من الذين يظنونهم لم يزالوا أحياء لأنهم حسبوا أنهم بعثوا والدنيا باقية وحسبوا أن السؤال على ظاهره فتبرأوا من عهدة عدم ضبط الجواب‏.‏

وأما رد الله عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏إن لبثتم إلا قليلاً‏}‏ فهو يؤذن بكلام محذوف على طريقة دلالة الاقتضاء، لأنهم قد لبثوا أكثر من يوم أو بعض يوم بكثير فكيف يجعل قليلاً، فتعين أن قوله‏:‏ ‏{‏إن لبثتم إلا قليلاً‏}‏ لا يستقيم أن يكون جواباً لكلامهم إلا بتقدير‏:‏ قال بل لبثتم قروناً، كما في قوله في الذي مر على قرية ‏{‏فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثتَ قال لبثتُ يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 259‏]‏‏.‏ ولذلك تعين أن يكون التقدير‏:‏ قال بل لبثتم قروناً، وإن لبثتم إلا قليلاً فيما عند الله ‏{‏وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 47‏]‏‏.‏

وقرينة ذلك ما تفيده ‏(‏لو‏)‏ من الامتناع في قوله‏:‏ ‏{‏لو أنكم كنتم تعلمون‏}‏ أي لو كنتم تعلمون لعلمتم أنكم ما لبثتم إلا قليلاً، فيقتضي الامتناع أنهم ما علموا أنهم لبثوا قليلاً مع أن صريح جوابهم يقتضي أنهم علموا لبثاً قليلاً، فالجمع بين تعارض مقتضى جوابهم ومقتضى الرد عليهم إنما يكون باختلاف النسبة في قلة مدة المكث إذا نسبت إلى ما يراعى فيها، فهي إذا نسبت إلى شبهتهم في إحالة البعث كانت طويلة وقد وقع البعث بعدها فهذا خطأ منهم، وهي إذا نسبت إلى ما يترقبهم من مدة العذاب كانت مدة قليلة وهذا إرهاب لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏

‏{‏أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ‏(‏115‏)‏‏}‏

هذا من تمام القول المحكي في ‏{‏قال كم لبثتم في الأرض‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 112‏]‏ مفرع على ما قبله‏.‏ فرع الاستفهام عن حسبانهم أن الخلق لأجل العبث على إظهار بطلان ما زعموه من إنكار البعث‏.‏ والاستفهام تقرير وتوبيخ لأن لازم إنكارهم البعث أن يكون خلق الناس مشتملاً على عبث فنزلوا منزلة من حسب ذلك فقُرروا ووبخوا أخذا لهم بلازم اعتقادهم‏.‏

وأدخلت أداة الحصر بعد ‏(‏حسب‏)‏ فجعلت الفعل غير ناصب إلا مفعولاً واحداً وهو المصدر المستخلص من ‏{‏أنما خلقناكم‏}‏ والتقدير‏:‏ أفحسبتم خلقنا إياكم لأجل العبث، وذلك أن أفعال الظن والعلم نصبت مفعولين غالباً لأن أصل مفعوليها مبتدأ وخبر، أي اسم ذات واسم صفة فاحتياجها إلى المفعول الثاني من باب احتياج المبتدأ إلى الخبر لئلا تنعدم الفائدة في المبتدأ مجرداً عن خبره، وبذلك فارقت بقية الأفعال المتعدية باحتياجها إلى منصوبين لأن معناها لا يتعلق بالذوات؛ فقولك‏:‏ ظننت زيداً قائماً، إنما هو في الحقيقة‏:‏ ظننت قيام زيد، فمفعولها هو المصدر وحقه أن يكون خبراً مضافاً إلى ضمير مبتدئه كما قال الرضي‏:‏ يعني أن العرب استعملوها بمفعولين كراهية لجعل المصدر مفعولاً به كأنهم تجنبوا اللبس بين المفعول به والمفعول المطلق، وهذا كما استعملوا أفعال الكون مسندة إلى اسم الذوات ثم أتوا بعد اسم الذات باسم وصفها ولم يأتوا باسم الوصف من أول وهلة ولذلك إذا أوقعوا بعدها حرف المصدر اكتفوا به عن المفعولين، ولم يسمع عنهم أنهم نصبوا بها مصدراً صريحاً‏.‏ فإذا وقع مفعول أفعال الظن اسم معنى وهو المصدر الصريح أو المنسبك وحذف الفائدة فاجتزأت بالمصدر كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني ظننت أني ملاققٍ حِسَابِيَهْ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 20‏]‏‏.‏

وحيث كانت ‏(‏أنما‏)‏ مركبة من ‏(‏أن‏)‏ المفتوحة الهمزة ومن ‏(‏ما‏)‏ الكافة فوقوعها بعد فعل الحساب بمنزلة وقوع المصدر، ولولا ‏(‏أن‏)‏ لكان الكلام‏:‏ أحسبتمونا خالقينكم عبثاً‏.‏

وانتصب ‏{‏عَبَثاً‏}‏ على الحال من ضمير الجلالة مؤولاً باسم الفاعل‏.‏ والعبث‏:‏ العمل الذي لا فائدة فيه‏.‏ وكلما تضاءلت الفائدة كان لها حكم العدم فلو لم يكن خلق البشر في هذه الحياة مرتباً عليه مجازاة الفاعلين على أفعالهم لكان خالقه قد أتى في فعله بشيء عديم الفائدة فكان فيه حظ من العبث‏.‏

وبيان كونه عبثاً أنه لو خُلق الخلق فأحسنَ المحسن وأساء المسيء ولم يلق كل جزاءه لكان ذلك إضاعة لحق المحسن وإغضاء عما حصل من فساد المسيء فكان ذلك تسليطاً للعبث‏.‏ وليس معنى الحال أن يكون عاملها غير مفارق لمدلولها بل يكفي حصول معناها في بعض أكوان عاملها‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏وأنكم إلينا لا ترجعون‏}‏ فهم قد حسبوا ذلك حقيقة بلا تنزيل وهذا من تمام الإنكار‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تُرجعون‏}‏ بضم التاء وفتح الجيم، أي أن الله يرجعهم قهراً‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وخلف بفتح التاء وكسر الجيم، أي يرجعون طوعاً أو كرهاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏116‏]‏

‏{‏فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ‏(‏116‏)‏‏}‏

تفرع على ما تقدم بيانه من دلائل الوحدانية والقدرة والحكمة ظهور أن الله هو الملك الذي ليس في اتصافه بالملك شائبة من معنى المُلك‏.‏ فملكه الملك الكامل في حقيقته‏.‏ الشامل في نفاذه‏.‏

والتعريف في ‏{‏الملك‏}‏ للجنس‏.‏

والحق‏:‏ ما قابل الباطل، ومفهوم الصفة يقتضي أن مُلك غيره باطل، أي فيه شائبة الباطل لا من جهة الجور والظلم لأنه قد يوجدُ مُلك لا جور فيه ولا ظلم كملك الأنبياء والخلفاء الراشدين وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخلفاء والأمراء، بل من جهة أنه مُلك غير مستكمل حقيقة المالكية فإن كل من ينسب إليه المُلك عدا الله تعالى هو مالك من جهة ومملوك من جهة لما فيه من نقص واحتياج؛ فهو مملوك لما يتطلبه من تسديد نقصه بقدر الحاجة ومن استعانة بالغير لجبر احتياجه فذلك مُلك باطل لأنه ادعاء مُلك غير تام‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏تعالى‏}‏ يجوز أن تكون خبراً قصد منه التذكير والاستنتاج مما تقدم من الدلائل المبينة لمعنى تعاليه وأن تكون إنشاء ثناء عليه بالعلو‏.‏

والتعالي‏:‏ مبالغة في العلو‏.‏ وأتبع ذلك بما هو دليل عليه وهو انفراده بالإلهية وذلك وصف ذاتي، وبأنه مالك أعظم المخلوقات أعني العرش وذلك دليل عظمة القدرة‏.‏

و ‏{‏الكريم‏}‏ بالجر صفة العرش‏.‏ وكرم الجنس أن يكون مستوفياً فضائل جنسه كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني ألقي إليّ كتاب كريم‏}‏ في سورة النمل ‏(‏29‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏117‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ‏(‏117‏)‏‏}‏

لما كان أعظم ما دعا الله إليه توحيده وكان أصل ضلال المشركين إشراكهم أعقب وصف الله بالعلو العظيم والقدرة الواسعة ببيان أن الحساب الواقع بعد البعث ينال الذين دعَوا مع الله آلهة دعوى لا عذر لهم فيها لأنها عرية عن البرهان أي الدليل، لأنهم لم يثبتوا لله المُلك الكامل إذ أشركوا معه آلهة ولم يثبتوا ما يقتضي له عظيم التصرف إذ أشركوا معه تصرف آلهة‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏لا برهان له به‏}‏ حال من ‏{‏من يدع مع الله إلهاً آخر‏}‏، وهي حال لازمة لأن دعوى الإله مع الله لا تكون إلا عرية عن البرهان ونظير هذا الحال قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 50‏]‏‏.‏

والقصر في قوله‏:‏ ‏{‏فإنما حسابه عند ربه‏}‏ قصر حقيقي‏.‏ وفيه إثبات الحساب وأنه لله وحده مبالغة في تخطئتهم وتهديدهم‏.‏

ويجوز أن يكون القصر إضافياً تطمينا للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن الله لا يؤاخذه باستمرارهم على الكفر كقوله ‏{‏إن عليك إلا البلاغ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 48‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 3‏]‏ وهذا أسعد بقوله بعده ‏{‏وقل رب اغفر وارحم‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 118‏]‏‏.‏

ويدل على ذلك تذييله بجملة ‏{‏إنه لا يفلح الكافرون‏}‏‏.‏ وفيه ضرب من رد العجز على الصدر إذ افتتحت السورة ب ‏{‏قد أفلح المؤمنون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 1‏]‏ وختمت ب ‏{‏إنه لا يفلح الكافرون‏}‏ وهو نفي الفلاح عن الكافرين ضد المؤمنين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏118‏]‏

‏{‏وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏118‏)‏‏}‏

عطف على جملة‏:‏ ‏{‏ومن يدع مع الله إلهاً آخر‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 117‏]‏ إلخ باعتبار قوله‏:‏ ‏{‏فإنما حسابه عند ربه‏}‏‏.‏ فإن المقصود من الجملة خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بأن يدعو ربه بالمغفرة والرحمة‏.‏ وفي حذف متعلق ‏{‏اغفر وارحم‏}‏ تفويض الأمر إلى الله في تعيين المغفور لهم والمرحومين، والمراد من كانوا من المؤمنين ويجوز أن يكون المعنى اغفر لي وارحمني، بقرينة المقام‏.‏

وأمره بأن يدعو بذلك يتضمن وعداً بالإجابة‏.‏

وهذا الكلام مؤذن بانتهاء السورة فهو من براعة المقطع‏.‏

سورة النور

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏1‏)‏‏}‏

يجوز أن يكون ‏{‏سورة‏}‏ خبراً عن مبتدأ مقدر دل عليه ابتداء السورة، فيقدر‏:‏ هذه سورة‏.‏ واسم الإشارة المقدر يشير إلى حاضر في السمع وهو الكلام المتتالي، فكل ما ينزل من هذه السورة وألحق بها من الآيات فهو من المشار إليه باسم الإشارة المقدر‏.‏ وهذه الإشارة مستعملة في الكلام كثيراً‏.‏

ويجوز أن تكون ‏{‏سورة‏}‏ مبتدأ ويكون قوله‏:‏ ‏{‏الزانية والزاني‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 2‏]‏ إلى آخر السورة خبراً عن ‏{‏سورة‏}‏ ويكون الابتداء بكلمة ‏{‏سورة‏}‏ ثم أجري عليه من الصفات تشويقاً إلى ما يأتي بعده مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كلمتان حبيبتان إلى الرحمان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ‏"‏‏.‏

وأحسن وجوه التقدير ما كان منساقاً إليه ذهن السامع دون كلفة، فدع عنك التقادير الأخرى التي جوزوها هنا‏.‏

ومعنى ‏{‏سورة‏}‏ جزء من القرآن معين بمبدأ ونهاية وعدد آيات‏.‏ وتقدم بيانه في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏أنزلناها‏}‏ وما عطف عليها في موضع الصفة ل ‏{‏سورة‏}‏‏.‏ والمقصود من تلك الأوصاف التنويه بهذه السورة ليقبل المسلمون بشراشرهم على تلقي ما فيها‏.‏ وفي ذلك امتنان على الأمة بتحديد أحكام سيرتها في أحوالها‏.‏

ففي قوله‏:‏ ‏{‏أنزلناها‏}‏ تنويه بالسورة بما يدل عليه «أنزلنا» من الإسناد إلى ضمير الجلالة الدال على العناية بها وتشريفها‏.‏ وعبر ب«أنزلنا» عن ابتداء إنزال آياتها بعد أن قدرها الله بعلمه بكلامه النفسي‏.‏ فالمقصود من إسناد إنزالها إلى الله تعالى تنويه بها‏.‏ وعبر عن إنزالها بصيغة المضي وإنما هو واقع في الحال باعتبار إرادة إنزالها، فكأنه قيل‏:‏ أردنا إنزالها وإبلاغها، فجعل ذلك الاعتناء كالماضي حرصاً عليه‏.‏ وهذا من استعمال الفعل في معنى إرادة وقوعه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ الآية‏.‏

والقرينة قوله‏:‏ ‏{‏وفرضناها‏}‏ ومعنى ‏{‏فرضناها‏}‏ عند المفسرين‏:‏ أوجبنا العمل بما فيها‏.‏ وإنما يليق هذا التفسير بالنظر إلى معظم هذه السورة لا إلى جميعها فإن منها ما لا يتعلق به عمل كقوله‏:‏ ‏{‏الله نور السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏ الآيات وقوله‏:‏ ‏{‏والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 39‏]‏‏.‏

فالذي أختاره أن يكون الفرض هنا بمعنى التعيين والتقدير كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نصيباً مفروضاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 7‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وتعدية فعل «فرضنا» إلى ضمير السورة من قبيل ما يعبر عنه في مسائل أصول الفقه من إضافة الأحكام إلى الأعيان بإرادة أحوالها، مثل ‏{‏حرمت عليكم الميتة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏، أي أكلها‏.‏ فالمعنى‏:‏ وفرضنا آياتها‏.‏ وسنذكر قريباً ما يزيد هذا بياناً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 34‏]‏ وكيف قوبلت الصفات الثلاث المذكورة هنا بالصفات الثلاث المذكورة هنالك‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏وفرضناها‏}‏ بتخفيف الراء بصيغة الفعل المجرد‏.‏

وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ‏{‏وفرّضناها‏}‏ بتشديد الراء للمبالغة مثل نزّل المشدّد‏.‏ ونقل في حواشي «الكشاف» عن الزمخشري قوله‏:‏

كأنه عامل في دين سؤدده *** بسورة أنزلت فيه وفُرّضَتِ

وهذان الحكمان وهما الإنزال والفرض ثبتا لجميع السورة‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏أنزلنا فيها آيات بينات‏}‏ فهو تنويه آخر بهذه السورة تنويه بكل آية اشتملت عليها السورة‏:‏ من الهدى إلى التوحيد، وحقية الإسلام، ومن حجج وتمثيل، وما في دلائل صنع الله على سعة قدرته وعلمه وحكمته، وهي ما أشار إليه قوله‏:‏ ‏{‏ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 34‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ألم تر أن الله يزجي سحاباً‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏صراط مستقيم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 43 46‏]‏‏.‏

ومن الآيات البينات التي أنزلت فيها إطلاع الله رسوله على دخائل المنافقين مما كتموه في نفوسهم من قوله‏:‏ ‏{‏وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إن الله خبير بما تعلمون‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 48 53‏]‏ فحصل التنويه بمجموع السورة ابتداء والتنويه بكل جزء منها ثانياً‏.‏

فالآيات جمع آية وهي قطعة من الكلام القرآني دالة على معنى مستقل وتقدم بيانها في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير‏.‏

فالمراد من الآيات المنزلة في هذه السورة جميع ما اشتملت عليه من الآيات لا آيات مخصوصة من بينها‏.‏ والمقصود التنويه بآياتها بإجراء وصف ‏{‏بينات‏}‏ عليها‏.‏

وإذا كانت الآيات التي اشتملت السورة على جميعها هي عين السورة لا بعضاً منها إذ ليس ثم شيء غير تلك الآيات حاوٍ لتلك الآيات حقيقة ولا مشبه بما يحوي، فكان حرف ‏(‏في‏)‏ الموضوع للظرفية مستعملاً في غير ما وضع له لا حقيقة ولا استعارة مصرحة‏.‏

فتعين أن كلمة ‏{‏فيها‏}‏ تؤذن باستعارة مكنية بتشبيه آيات هذه السورة بأعلاق نفسية تكتنز ويحرص على حفظها من الإضاعة والتلاشي كأنها مما يجعل في خزانة ونحوها‏.‏ ورمز إلى المشبه به بشيء من روادفه وهو حرف الظرفية فيكون حرف ‏(‏في‏)‏ تخييلاً مجرداً وليس باستعارة تخيلية إذ ليس ثم ما يشبه بالخزانة ونحوها، فوزان هذا التخييل وزان أظفار المنية في قول أبي ذؤيب الهذلي‏:‏

وإذا المنية أنشبت أظفارها *** ألفيت كل تميمة لا تنفع

وهذه الظرفية شبيهة بالإضافة البيانية مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُحلت لكم بهيمة الأنعام‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أكفاركم خير‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 43‏]‏ فإن الكفار هم عين ضمير الجماعة المخاطبين وهم المشركون‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏وأنزلنا فيها‏}‏ هو‏:‏ بمعنى وأنزلناها آيات بينات‏.‏ ووصف ‏{‏آيات‏}‏ ب ‏{‏بينات‏}‏ أي واضحات، مجاز عقلي لأن البيّن هو معانيها، وأعيد فعل الإنزال مع إغناء حرف العطف عنه لإظهار مزيد العناية بها‏.‏

والوجه أن جملة ‏{‏لعلكم تذكرون‏}‏ مرتبطة بجملة‏:‏ ‏{‏أنزلنا فيها آيات بينات‏}‏ لأن الآيات بهذا المعنى مظنة التذكر، أي دلائل مظنة لحصول تذكركم‏.‏ فحصل بهذا الرجاء وصف آخر للسورة هو أنها مبعث تذكر وعظة‏.‏ والتذكر‏:‏ خطور ما كان منسياً بالذهن وهو هنا مستعار لاكتساب العلم من أدلته اليقينية بجعله كالعلم الحاصل من قبل فنسيه الذهن، أي العلم الذي شأنه أن يكون معلوماً، فشبه جهله بالنسيان وشبه علمه بالتذكر‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تذَّكرون‏}‏ بتشديد الذال وأصله تتذكرون فأدغم‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وحفص وخلف ‏{‏تذَكرون‏}‏ بتخفيف الذال فحذفت إحدى التائين اختصاراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏الزانية والزانى فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ‏}‏‏.‏

ابتداء كلام وهو كالعنوان والترجمة في التبويب فلذلك أتي بعده بالفاء المؤذنة بأن ما بعدها في قوة الجواب وأن ما قبلها في قوة الشرط‏.‏ فالتقدير‏:‏ الزانية والزاني مما أنزلت له هذه السورة وفرضت‏.‏ ولما كان هذا يستدعي استشراف السامع كان الكلام في قوة‏:‏ إن أردتم حكمهما فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة‏.‏ وهكذا شأن هذه الفاء كلما جاءت بعد ما هو في صورة المبتدأ فإنما يكون ذلك المبتدأ في معنى ما للسامع رغبة في استعلام حاله كقول الشاعر، وهو من شواهد «كتاب سيبويه» التي لم يعرف قائلها‏:‏

وقائلة‏:‏ خولانُ فانكح فتاتهم *** وأُكرومة الحيين خِلو كما هِيا

التقدير‏:‏ هذه خولان، أو خولان مما يرغب في صهرها فانكح فتاتهم إن رغبت‏.‏ ومن صرفوا ذهنهم عن هذه الدقائق في الاستعمال قالوا الفاء زائدة في الخبر‏.‏ وتقدم زيادة الفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما‏}‏ في سورة العقود ‏(‏38‏)‏‏.‏

وصيغتا الزانية والزاني‏}‏ صيغة اسم فاعل وهو هنا مستعمل في أصل معناه وهو اتصاف صاحبه بمعنى مادته فلذلك يعتبر بمنزلة الفعل المضارع في الدلالة على الاتصاف بالحدث في زمن الحال، فكأنه قيل‏:‏ التي تزني والذي يزني فاجلدوا كل واحد منهما إلخ‏.‏ ويؤيد ذلك الأمر بجلد كل واحد منهما فإن الجلد يترتب على التلبس بسببه‏.‏

ثم يجوز أن تكون قصة مرثد بن أبي مرثد النازل فيها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الزاني لا ينكح إلا زنية أو مشركة‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 3‏]‏ إلخ هي سبب نزول أول هذه السورة‏.‏ فتكون آية ‏{‏الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة‏}‏ هي المقصد الأول من هذه السورة ويكون قوله‏:‏ ‏{‏الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة‏}‏ تمهيداً ومقدمة لقوله‏:‏ ‏{‏الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 3‏]‏ فإن تشنيع حال البغايا جدير بأن يقدم قبله ما هو أجدر بالتشريع وهو عقوبة فاعل الزنى‏.‏ ذلك أن مرثد ما بعثه على الرغبة في تزوج عناق إلا ما عرضته عليه من أن يزني معها‏.‏

وقدم ذكر ‏{‏الزانية‏}‏ على ‏{‏الزاني‏}‏ للاهتمام بالحكم لأن المرأة هي الباعث على زنى الرجل وبمساعفتها الرجل يحصل الزنى ولو منعت المرأة نفسها ما وجد الرجل إلى الزنى تمكيناً، فتقديم المرأة في الذكر لأنه أشد في تحذيرها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كل واحد منهما‏}‏ للدلالة على أنه ليس أحدهما بأولى بالعقوبة من الآخر‏.‏

وتعريف ‏{‏الزانية والزاني‏}‏ تعريف الجنس وهو يفيد الاستغراق غالباً ومقام التشريع يقتضيه، وشأن ‏(‏أل‏)‏ الجنسية إذا دخلت على اسم الفاعل أن تبعّد الوصف عن مشابهة الفعل فلذلك لا يكون اسم الفاعل معها حقيقة في الحال ولا في غيره وإنما هو تحقق الوصف في صاحبه‏.‏

وبهذا العموم شمل الإماء والعبيد، ف ‏{‏الزانية والزاني‏}‏ من اتصفت بالزنى واتصف بالزنى‏.‏

والزنى‏:‏ اسم مصدر زَنى، وهو جماع بين الرجل والمرأة اللذين لا يحل أحدهما للآخر، يقال‏:‏ زنى الرجل وزنت المرأة، ويقال‏:‏ زانى بصيغة المفاعلة لأن الفعل حاصل من فاعلين ولذلك جاء مصدره الزناء بالمدّ أيضاً بوزن الفِعال ويخفف همزه فيصير اسماً مقصوراً‏.‏ وأكثر ما كان في الجاهلية أن يكون بداعي المحبة والموافقة بين الرجل والمرأة دون عوض، فإن كان بعوض فهو البغاء يكون في الحرائر ويغلب في الإماء وكانوا يجهرون به فكانت البغايا يجعلن رايات على بيوتهن مثل راية البيطار ليعرفن بذلك وكل ذلك يشمله اسم الزنى في اصطلاح القرآن وفي الحكم الشرعي‏.‏ وتقدم ذكر الزنى في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا الزنى‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏32‏)‏‏.‏

والجلد‏:‏ الضرب بسير من جلد‏.‏ مشتق من الجلد بكسر الجيم لأنه ضرب الجلد‏.‏ أي البشرة‏.‏ كما اشتق الجَبْه، والبَطْن، والرأس في قولهم جَبَهه إذا ضرب جبهته، وبَطنَه إذا ضرب بطنه، ورَأسه إذا ضرب رأسه‏.‏ قال في «الكشاف»‏:‏ وفي لفظ الجلد إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتجاوز الألم إلى اللحم اه‏.‏ أي لا يكون الضرب يُطير الجلد حتى يظهر اللحم، فاختيار هذا اللفظ دون الضرب مقصود به الإشارة إلى هذا المعنى على طريقة الإدماج‏.‏

واتفق فقهاء الأمصار على‏:‏ أن ضرب الجلد بالسوط‏.‏ أي بسَيْر من جلد‏.‏ والسوط‏:‏ هو ما يضرب به الراكب الفرس وهو جلد مضفور، وأن يكون السوط متوسط اللين، وأن يكون رفع يد الضارب متوسطاً‏.‏ ومحل الجلد هو الظهر عند مالك‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ تضرب سائر الأعضاء ما عدا الوجه والفرج‏.‏ وأجمعوا على ترك الضرب على المقاتل، ومنها الرأس في الحد‏.‏ روى الطبري أن عبد الله بن عمر حد جارية أحدثت فقال للجالد‏:‏ اجلد رجليها وأسفلها، فقال له ابنه عبد الله‏:‏ فأين قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله‏}‏ فقال فاقتها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كل واحد منهما‏}‏ تأكيد للعموم المستفاد من التعريف فلم يكتف بأن يقال‏:‏ فاجلدوهما، كما قال‏:‏ ‏{‏والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 38‏]‏ وتذكير كل واحد تغليب للمذكر مثل ‏{‏وكانت من القانتين‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 12‏]‏‏.‏

والخطاب بالأمر بالجلد موجه إلى المسلمين فيقوم به من يتولى أمور المسلمين من الأمراء والقضاة ولا يتولاه الأولياء، وقال مالك والشافعي وأحمد‏:‏ يقيم السيد على عبده وأمته حد الزنى، وقال أبو حنيفة لا يقيمه إلا الإمام‏.‏ وقال مالك‏:‏ لا يقيم السيد حد الزنى على أمته إذا كانت ذات زوج حر أو عبد ولا يقيم الحد عليها إلا ولي الأمر‏.‏

وكان أهل الجاهلية لا يعاقبون على الزنى لأنه بالتراضي بين الرجل والمرأة إلا إذا كان للمرأة زوج أو ولي يذب عن عرضه بنفسه كما أشار إليه قول امرئ القيس‏:‏

تجاوزت أحراساً إليها ومعشراً *** علي حراصاً لو يسرّون مقتلي

وقول عبد بني الحسحاس‏:‏

وهن بنات القوم إن يشعروا بنا *** يكن في بنات القوم إحدى الدهارس

الدهارس‏:‏ الدواهي‏.‏ ولم تكن في ذلك عقوبة مقدرة ولكنه حكم السيف أو التصالح على ما يتراضيان عليه‏.‏ وفي «الموطأ» عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما‏:‏ يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله‏.‏ وقال الآخر وهو أفقههما‏:‏ أجل يا رسول الله فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم‏.‏ فقال‏:‏ تكلم‏.‏ قال‏:‏ إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته فأخبروني أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة وبجارية لي، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام وأخبروني أنما الرجم على امرأته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، أما غنمك وجاريتك فردّ عليك‏.‏ وجلد ابنه مائة وغربه عاماً وأمر أنيساً الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر فإن اعترفت رَجمها فاعترفت فرجمها‏.‏ قال مالك‏:‏ والعسيف الأجير اه‏.‏

فهذا الافتداء أثر مما كانوا عليه في الجاهلية، ثم فرض عقاب الزنى في الإسلام بما في سورة النساء وهو الأذى للرجل الزاني، أي بالعقاب الموجع، وحبس للمرأة الزانية مدة حياتها‏.‏ وأشارت الآية إلى أن ذلك حكم مجمل بالنسبة للرجل لأن الأذى صالح لأن يبيّن بالضرب أو بالرجم وهو حكم موقت بالنسبة إلى المرأة بقوله‏:‏ ‏{‏أو يجعل الله لهن سبيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 15‏]‏ ثم فرض حد الزنى بما في هذه السورة‏.‏

ففرض حد الزنى بهذه الآية جلد مائة فعمّ المحصن وغيره، وخصصته السنة بغير المحصن من الرجال والنساء‏.‏ فأما من أحصن منهما، أي تزوج بعقد صحيح ووقع الدخول فإن الزاني المحصن حده الرجم بالحجارة حتى يموت‏.‏ وكان ذلك سُنةً متواترةً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ورجم ماعز بن مالك‏.‏ وأجمع على ذلك العلماء وكان ذلك الإجماع أثراً من آثار تواترها‏.‏

وقد روي عن عمر أن الرجم كان في القرآن «الثيِّب والثيبة إذا زنيا فارجموهما البتة» وفي رواية «الشيخ والشيخة» وأنه كان يقرأ ونسخت تلاوته‏.‏ وفي «أحكام ابن الفرس» في سورة النساء‏:‏ «وقد أنكر هذا قوم»، ولم أر من عيّن الذين أنكروا‏.‏ وذكر في سورة النور أن الخوارج بأجمعهم يرون هذه الآية على عمومها في المحصن وغيره ولا يرون الرجم ويقولون‏:‏ ليس في كتاب الله الرجم فلا رجم‏.‏

ولا شك في أن القضاء بالرجم وقع بعد نزول سورة النور‏.‏ وقد سئل عبد الله بن أبي أوفى عن الرجم‏:‏ أكان قبل سورة النور أو بعدها‏؟‏ ‏(‏يريد السائل بذلك أن تكون آية سورة النور منسوخة بحديث الرجم أو العكس، أي أن الرجم منسوخ بالجلد‏)‏ فقال ابن أبي أوفى‏:‏ لا أدري‏.‏

وفي رواية أبي هريرة أنه شهد الرجم‏.‏ وهذا يقتضي أنه كان معمولاً به بعد سورة النور لأن أبا هريرة أسلم سنة سبع وسورة النور نزلت سنة أربع أو خمس كما علمت وأجمع العلماء على أن حد الزاني المحصن الرجم‏.‏

وقد ثبت بالسنة أيضاً تغريب الزاني بعد جلده تغريب سنة كاملة، ولا تغريب على المرأة‏.‏ وليس التغريب عند أبي حنيفة بمتعين ولكنه لاجتهاد الإمام إن رأى تغريبه لدعارته‏.‏ وصفة الرجم والجلد وآلتهما مبينة في كتب الفقه ولا يتوقف معنى الآية على ذكرها‏.‏

عطف على جملة ‏{‏فاجلدوا‏}‏؛ فلما كان الجلد موجعاً وكان المباشر له قد يرق على المجلود من وجعه نُهي المسلمون أن تأخذهم رأفة بالزانية والزاني فيتركوا الحد أو ينقصوه‏.‏

والأخذ‏:‏ حقيقته الاستيلاء‏.‏ وهو هنا مستعار لشدة تأثير الرأفة على المخاطبين وامتلاكها إرادتهم بحيث يضعفون عن إقامة الحد فيكون كقوله‏:‏ ‏{‏أخذته العزة بالإثم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 206‏]‏ فهو مستعمل في قوة ملابسة الوصف للموصوف‏.‏

و ‏{‏بهما‏}‏ يجوز أن يتعلق ب ‏{‏رأفة‏}‏ فالباء للمصاحبة لأن معنى الأخذ هنا حدوث الوصف عند مشاهدتهما‏.‏ ويجوز تعليقه ب ‏{‏تأخذكم‏}‏ فتكون الباء للسببية، أي أخذ الرأفة بسببهما أي بسبب جلدهما‏.‏

وتقديم المجرور على عامله للاهتمام بذكر الزاني والزانية تنبيهاً على الاعتناء بإقامة الحد‏.‏ والنهي عن أن تأخذهم رأفة كناية عن النهي عن أثر ذلك وهو ترك الحد أو نقصه‏.‏ وأما الرأفة فتقع في النفس بدون اختيار فلا يتعلق بها النهي؛ فعلى المسلم أن يروض نفسه على دفع الرأفة في المواضع المذمومة فيها الرأفة‏.‏

والرأفة‏:‏ رحمة خاصة تنشأ عند مشاهدة ضُرّ بالمرؤوف‏.‏ وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله بالناس لرؤوف رحيم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏143‏)‏‏.‏ ويجوز سكون الهمزة وبذلك قرأ الجمهور‏.‏ ويجوز فتحها وبالفتح قرأ ابن كثير‏.‏

وعلق بالرأفة قوله‏:‏ ‏{‏في دين الله‏}‏ لإفادة أنها رأفة غير محمودة لأنها تعطل دين الله، أي أحكامه، وإنما شرع الله الحد استصلاحاً فكانت الرأفة في إقامته فساداً‏.‏ وفيه تعريض بأن الله الذي شرع الحد هو أرأف بعباده من بعضهم ببعض‏.‏ وفي «مسند أبي يعلى» عن حذيفة مرفوعاً‏:‏ ‏"‏ يؤتى بالذي ضَرب فوق الحد فيقول الله له‏:‏ عبدي لم ضربت فوق الحد‏؟‏ فيقول‏:‏ غضبت لك فيقول الله‏:‏ أكان غضبك أشد من غضبي‏؟‏ ويؤتى بالذي قصّر فيقول‏:‏ عبدي لِمَ قصرت‏؟‏ فيقول‏:‏ رحِمتُهُ‏.‏ فيقول‏:‏ أكانت رحمتك أشد من رحمتي‏.‏ ويؤمر بهما إلى النار ‏"‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن كنتم تؤمنون بالله‏}‏ شرط محذوف الجواب لدلالة ما قبله عليه، أي إن كنتم مؤمنين فلا تأخذكم بهما رأفة، أي لا تؤثر فيكم رأفة بهما‏.‏ والمقصود‏:‏ شدة التحذير من أن يتأثروا بالرأفة بهما بحيث يفرض أنهم لا يؤمنون‏.‏ وهذا صادر مصدر التلهيب والتهييج حتى يقول السامع‏:‏ كيف لا أومن بالله واليوم الآخر‏.‏

وعطف الإيمان باليوم الآخر على الإيمان بالله للتذكير بأن الرأفة بهما في تعطيل الحد أو نقصه نسيان لليوم الآخر فإن تلك الرأفة تفضي بهما إلى أن يؤخذ منهما العقاب يوم القيامة فهي رأفة ضارة كرأفة ترك الدواء للمريض، فإن الحدود جوابر على ما تؤذن به أدلة الشريعة‏.‏

‏{‏وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين‏}‏‏.‏

أمر أن تحضر جماعة من المسلمين إقامة حد الزنا تحقيقاً لإقامة الحد وحذراً من التساهل فيه فإن الإخفاء ذريعة للإنساء، فإذا لم يشهده المؤمنون فقد يتساءلون عن عدم إقامته فإذا تبين لهم إهماله فلا يعدم بينهم من يقوم بتغيير المنكر من تعطيل الحدود‏.‏

وفيه فائدة أخرى وهي أن من مقاصد الحدود مع عقوبة الجاني أن يرتدع غيره، وبحضور طائفة من المؤمنين يتعظ به الحاضرون ويزدجرون ويشيع الحديث فيه بنقل الحاضر إلى الغائب‏.‏

والطائفة‏:‏ الجماعة من الناس‏.‏ وقد تقدم ذكرها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلتقم طائفة منهم معك‏}‏ في سورة النساء ‏(‏102‏)‏، وعند قوله‏:‏ ‏{‏أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا‏}‏ في آخر الأنعام ‏(‏156‏)‏‏.‏ وقد اختلف في ضبط عددها هنا‏.‏ والظاهر أنه عدد تحصل بخبره الاستفاضة وهو يختلف باختلاف الأمكنة‏.‏ والمشهور عن مالك الاثنان فصاعداً، وقال ابن أبي زيد‏:‏ أربعة اعتباراً بشهادة الزنا‏.‏ وقيل عشرة‏.‏

وظاهر الأمر يقتضي وجوب حضور طائفة للحد‏.‏ وحمله الحنفية على الندب وكذلك الشافعية ولم أقف على تصريح بحكمه في المذهب المالكي‏.‏ ويظهر من إطلاق المفسرين وأصحاب الأحكام من المالكية ومن اختلافهم في أقل ما يجزئ من عدد الطائفة أنه يحمل على الوجوب إذ هو محمل الأمر عند مالك‏.‏ وأيَّاً مَّا كان حكمه فهو في الكفاية ولا يطالب به من له بالمحدود مزيد صلة يحزنه أن يشاهد إقامة الحد عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

هذه الآية نزلت مستقلة بأولها ونهايتها كما يأتي قريباً في ذكر سبب نزولها، سواء كان نزولها قبل الآيات التي افتتحت بها السورة أم كان نزولها بعد تلك الآيات‏.‏ فهذه الجملة ابتدائية‏.‏ ومناسبة موقعها بعد الجملة التي قبلها واضحة‏.‏

وقد أعضل معناها فتطلب المفسرون وجوها من التأويل وبعض الوجوه ينحل إلى متعدد‏.‏

وسبب نزول هذه الآية ما رواه أبو داود وما رواه الترمذي وصححه وحسنه‏:‏ «أنه كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد ‏(‏الغنوي من المسلمين‏)‏ كان يخرج من المدينة إلى مكة يحمل الأسرى فيأتي بهم إلى المدينة‏.‏ وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها‏:‏ عناق‏.‏ وكانت خليلة له، وأنه كان وعد رجلاً من أسارى مكة ليحمله‏.‏ قال‏:‏ فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة‏.‏ قال‏:‏ فجاءت عناق فقالت‏:‏ مرثد‏؟‏ قلت‏:‏ مرثد‏.‏ قالت‏:‏ مرحباً وأهلاً هلم فبت عندنا الليلة‏.‏ قال فقلت‏:‏ حرم الله الزنى‏.‏ فقالت عناق‏:‏ يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم، فتبعني ثمانية ‏(‏من المشركين‏)‏‏.‏‏.‏ إلى أن قال‏:‏ ثم رجعوا ورجعت إلى صاحبي فحملته ففككت عنه كبله حتى قدمت المدينة فأتيت رسول الله فقلت‏:‏ يا رسول الله أنكح عناق‏؟‏ فأمسك رسول الله فلم يرد عليَّ شيئاً حتى نزلت ‏{‏الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين‏}‏ فقال رسول الله‏:‏ يا مرثد لا تنكحها»‏.‏

فتبيّن أن هذه الآية نزلت جواباً عن سؤال مرثد بن أبي مرثد هل يتزوج عناق‏.‏ ومثار ما يشكل ويعضل من معناها‏:‏ أن النكاح هنا عقد التزوج كما جزم به المحققون من المفسرين مثل الزجاج والزمخشري وغيرهما‏.‏ وأنا أرى لفظ النكاح لم يوضع ولم يستعمل إلا في عقد الزواج وما انبثق زعم أنه يطلق على الوطء إلا من تفسير بعض المفسرين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 230‏]‏ بناء على اتفاق الفقهاء على أن مجرد العقد على المرأة بزوج لا يحلها لمن بَتَّها إلا إذا دخل بها الزوج الثاني‏.‏ وفيه بحث طويل، ليس هذا محله‏.‏

وأنه لا تردد في أن هذه الآية نزلت بعد تحريم الزنى إذ كان تحريم الزنى من أول ما شرع من الأحكام في الإسلام كما في الآيات الكثيرة النازلة بمكة، وحسبك أن الأعشى عدّ تحريم الزنى في عداد ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من التشريع إذ قال في قصيدته لما جاء مكة بنية الإسلام ومدح النبي صلى الله عليه وسلم فصده أبو جهل فانصرف إلى اليمامة ومات هناك قال‏:‏

أجدَّك لم تسمع وصاة محمد *** نبيءِ الإله حين أوصى وأشهدا

إلى أن قال‏:‏

ولا تقربنّ جارة إنّ سرها *** عليك حرام فانكحن أو تأبدا

وقد ذكرنا ذلك في تفسير سورة الإسراء‏.‏

وأنه يلوح في بادئ النظر من ظاهر الآية أن صدرها إلى قوله أو ‏{‏مشرك‏}‏ إخبارٌ عن حال تزوج امرأة زانية وأنه ليس لتشريع حكم النكاح بين الزناة المسلمين، ولا نكاح بين المشركين‏.‏ فإذا كان إخباراً لم يستقم معنى الآية إذ الزاني قد ينكح الحصينة والمشرك قد ينكح الحصينة وهو الأكثر فلا يستقيم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة‏}‏ معنى، وأيضاً الزانية قد ينكحها المسلم العفيف لرغبة في جمالها أو لينقذها من عهر الزنى وما هو بزان ولا مشرك فلا يستقيم معنى لقوله‏:‏ ‏{‏والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك‏}‏ وإننا لو تنازلنا وقبلنا أن تكون لتشريع حكم فالإشكال أقوى إذ لا معنى لتشريع حكم نكاح الزاني والزانية والمشرك والمشركة فتعين تأويل الآية بما يفيد معنى معتبراً‏.‏

والوجه في تأويلها‏:‏ أن مجموع الآية مقصود منه التشريع دون الإخبار لأن الله تعالى قال في آخرها ‏{‏وحرم ذلك على المؤمنين‏}‏‏.‏ ولأنها نزلت جواباً عن سؤال مرثد تزويجه عناق وهي زانية ومشركة ومرثد مسلم تقي‏.‏ غير أن صدر الآية ليس هو المقصود بالتشريع بل هو تمهيد لآخرها مشير إلى تعليل ما شُرع في آخرها، وفيه ما يفسر مرجع اسم الإشارة الواقع في قوله‏:‏ ‏{‏وحرم ذلك‏}‏‏.‏ وأن حكمها عام لمرثد وغيره من المسلمين بحق عموم لفظ ‏{‏المؤمنين‏}‏‏.‏

وينبني على هذا التأصيل أن قوله‏:‏ ‏{‏الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة‏}‏ تمهيد للحكم المقصود الذي في قوله‏:‏ ‏{‏وحرم ذلك على المؤمنين‏}‏ وأنه مسوق مساق الإخبار دون التشريع فيتعين أن المراد من لفظ ‏{‏الزاني‏}‏ المعنى الإسمي لاسم الفاعل وهو معنى التلبس بمصدره دون معنى الحدوث؛ إذ يجب أن لا يُغفل عن كون اسم الفاعل له شائبتان‏:‏ شائبة كونه مشتقاً من المصدر فهو بذلك بمنزلة الفعل المضارع، فضارب يشبه يضرب في إفادة حصول الحدث من فاعل، وشائبةُ دلالته على ذات متلبسة بحدث فهو بتلك الشائبة يقْوى فيه جانب الأسماء الدالة على الذوات‏.‏ وحمله في هذه الآية على المعنى الإسمي تقتضيه قرينة السياق إذ لا يفهم أن يكون المعنى أن الذي يحدث الزنى لا يتزوج إلا زانية لانتفاء جدوى تشريع منع حالة من حالات النكاح عن الذي أتى زنى‏.‏ وهذا على عكس محمل قوله‏:‏ ‏{‏الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 2‏]‏ فإنه بالمعنى الوصفي، أي التلبس بإحداث الزنى حسبما حملناه على ذلك آنفاً بقرينة سياق ترتب الجلد على الوصف إذ الجلد عقوبة إنما تترتب على إحداث جريمة توجبها‏.‏

فتمحض أن يكون المراد من قوله‏:‏ ‏{‏الزاني لا ينكح إلا زانية‏}‏ إلخ‏:‏ مَن كان الزنى دأباً له قبل الإسلام وتخلق به ثم أسلم وأراد تزوج امرأة ملازمة للزنى مثل البغايا ومتخذات الأخدان ‏(‏ولا يكن إلا غير مسلمات لا محالة‏)‏ فنهى الله المسلمين عن تزوج مثلها بقوله ‏{‏وحرم ذلك على المؤمنين‏}‏‏.‏

وقدم له ما يفيد تشويهه بأنه لا يلائم حال المسلم وإنما هو شأن أهل الزنى، أي غير المؤمنين، لأن المؤمن لا يكون الزنى له دأباً، ولو صدر منه لكان على سبيل الفلتة كما وقع لماعز بن مالك‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة‏}‏ تمهيد وليس بتشريع، لأن الزاني بمعنى مَن الزنى له عادة لا يكون مؤمناً فلا تشرع له أحكام الإسلام‏.‏ وهذا من قبيل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 26‏]‏ وهذا يتضمن أن المسلم إذا تزوج زانية فقد وضع نفسه في صف الزناة، أي المشركين‏.‏

وعطف قوله‏:‏ ‏{‏أو مشركة‏}‏ على ‏{‏زانية‏}‏ لزيادة التفظيع فإن الزانية غير المسلمة قد تكون غير مشركة مثل زواني اليهود والنصارى وبغاياهما‏.‏ وكذلك عطف ‏{‏أو مشرك‏}‏ على ‏{‏إلا زان‏}‏ لظهور أن المقام ليس بصدد التشريع للمشركات والمشركين أحكام التزوج بينهم إذ ليسوا بمخاطبين بفروع الشريعة‏.‏

فتمحض من هذا أن المؤمن الصالح لا يتزوج الزانية‏.‏ ذلك لأن الدربة على الزنى يتكون بها خلق يناسب أحوال الزناة من الرجال والنساء فلا يرغب في معاشرة الزانية إلا من تروق له أخلاق أمثالها، وقد كان المسلمون أيامئذ قريبي عهد بشرك وجاهلية فكان من مهم سياسة الشريعة للمسلمين التباعد بهم عن كل ما يستروح منه أن يذكرهم بما كانوا يألفونه قصد أن تصير أخلاق الإسلام ملكات فيهم فأراد الله أن يبعدهم عما قد يجدد فيهم أخلاقاً أوْشَكُوا أن ينسوها‏.‏

فموقع هذه الآية موقع المقصود من الكلام بعد المقدمة ولذلك جاءت مستأنفة كما تقع النتائج بعد أدلتها، وقدم قبلها حكم عقوبة الزنى لإفادة حكمه وما يقتضيه ذلك من تشنيع فعله‏.‏ فلذلك فالمراد بالزاني‏:‏ مَن وصْف الزنى عادته‏.‏

وفي «تفسير القرطبي» عن عمرو بن العاص ومجاهد‏:‏ أن هذه الآية خاصة في رجل من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاح امرأة يقال لها‏:‏ أم مهزول، وكانت من بغايا الزانيات وشرطت له أن تنفق عليه ‏(‏ولعل أم مهزول كنية عناق ولعل القصة واحدة‏)‏ إذ لم يرو غيرها‏.‏ قال الخطابي‏:‏ هذا خاص بهذه المرأة إذ كانت كافرة فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ‏.‏

وابتدئ في هذه الآية بذكر الزاني قبل ذكر الزانية على عكس ما تقدم في قوله ‏{‏الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 2‏]‏ فإن وجه تقديم الزانية في الآية السابقة هو ما عرفته، فأما هنا فإن سبب نزول هذه الآية كان رغبة رجل في تزوج امرأة تعودت الزنى فكان المقام مقتضياً الاهتمام بما يترتب على هذا السؤال من مذمة الرجل الذي يتزوج مثل تلك المرأة‏.‏

وجملة ‏{‏وحرم ذلك على المؤمنين‏}‏ تكميل للمقصود من الجملتين قبلها، وهو تصريح بما أريد من تفظيع نكاح الزانية وببيان الحكم الشرعي في القضية‏.‏

والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى المعنى الذي تضمنته الجملتان من قبل وهو نكاح الزانية، أي وحرم نكاح الزانية على المؤمنين، فلذلك عطفت جملة ‏{‏وحرم ذلك على المؤمنين‏}‏ لأنها أفادت تكميلاً لما قبلها وشأن التكميل أن يكون بطريق العطف‏.‏ ومن العلماء من حمل الآية على ظاهرها من التحريم وقالوا‏:‏ هذا حكم منسوخ نسختها الآية بعدها ‏{‏وأنكحوا الأيامي منكم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 32‏]‏ فدخلت الزانية في الأيامى، أي بعد أن استقر الإسلام وذهب الخوف على المسلمين من أن تعاودهم أخلاق أهل الجاهلية‏.‏

وروي هذا عن سعيد بن المسيب وعن عبد الله بن عمرو بن العاص وابن عمر، وبه أخذ مالك وأبو حنيفة والشافعي، ولم يؤثر أن أحداً تزوج زانية فيما بين نزول هذه الآية ونزول ناسخها، ولا أنه فسخ نكاح مسلم امرأة زانية‏.‏ ومقتضى التحريم الفساد وهو يقتضي الفسخ‏.‏ وقال الخطابي‏:‏ هذا خاص بهذه المرأة إذ كانت كافرة فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ‏.‏ ومنهم من رأى حكمها مستمراً‏.‏ ونسب الفخر القول باستمرار حكم التحريم إلى أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعائشة رضي الله عنهم ونسبه غيره إلى التابعين ولم يأخذ به فقهاء الأمصار من بعد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏4‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

كان فاشياً في الجاهلية رمي بعضهم بعضاً بالزنى إذا رأوا بين النساء والرجال تعارفاً أو محادثة‏.‏

وكان فاشياً فيهم الطعن في الأنساب بهتاناً إذا رأوا قلة شبه بين الأب والابن، فكان مما يقترن بحكم حد الزنى أن يذيل بحكم الذين يرمون المحصنات بالزنى إذا كانوا غير أزواجهن وهو حد القذف‏.‏ وقد تقدم وجه الاقتران بالفاء في قوله‏:‏ ‏{‏الزانية والزاني فاجلدوا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 2‏]‏ الآية‏.‏

والرمي حقيقته‏:‏ قذف شيء من اليد‏.‏ وشاع استعماله في نسبة فعل أو وصف إلى شخص‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم يرم به بريئاً‏}‏ في سورة النساء ‏(‏112‏)‏‏.‏ وحذف المرمي به في هذه الآية لظهور المقصود بقرينة السياق وذكر المحصنات‏.‏

والمحصنات‏:‏ هن المتزوجات من الحرائر‏.‏ والإحصان‏:‏ الدخول بزوج بعقد نكاح‏.‏ والمحصن‏:‏ اسم مفعول من أحصن الشيء إذا منعه من الإضاعة واستيلاء الغير عليه، فالزوج يحصن امرأته، أي يمنعها من الإهمال واعتداء الرجال‏.‏ وهذا كتسمية الأبكار مخدّرات ومقصورات، وتقدم في سورة النساء‏.‏ ولا يطلق وصف المحصنات‏}‏ إلا على الحرائر المتزوجات دون الإماء لعدم صيانتهن في عرف الناس قبل الإسلام‏.‏

وحذف متعلق الشهادة لظهور أنهم شهداء على إثبات ما رمى به القاذف، أي إثبات وقوع الزنى بحقيقته المعتد بها شرعاً، ومن البيِّن أن الشهداء الأربعة هم غير القاذف لأن معنى ‏{‏يأتوا بأربعة شهداء‏}‏ لا يتحقق فيما إذا كان القاذف من جملة الشهداء‏.‏ والجلد تقدم آنفاً‏.‏ وشرع هذا الجلد عقاباً للرامي بالكذب أو بدون تثبت ولسد ذريعة ذلك‏.‏

وأسند فعل ‏{‏يرمون‏}‏ إلى اسم موصول المذكر وضمائر ‏{‏تابوا وأصلحوا‏}‏ وكذلك وصف ‏{‏الفاسقون‏}‏ بصيغ التذكير، وعدي فعل الرمي إلى مفعول بصيغة الإناث كل ذلك بناء على الغالب أو على مراعاة قصة كانت سب نزول الآية ولكن هذا الحكم في الجميع يشمل ضد أهل هذه الصيغة في مواقعها كلها بطريق القياس‏.‏ ولا اعتداد بما يتوهم من فارق إلصاق المعرة بالمرأة إذا رميت بالزنى دون الرجل يرمى بالزنى لأن جعل العار على المرأة تزني دون الرجل يزني إنما هو عادة جاهلية لا التفات إليها في الإسلام فقد سوى الإسلام التحريم والحد والعقاب الآجل والذم العاجل بين المرأة والرجل‏.‏

وقد يعد اعتداء الرجل بزناه أشد من اعتداء المرأة بزناها لأن الرجل الزاني يضيع نسب نسله فهو جان على نفسه، وأما المرأة فولدها لاحق بها لا محالة فلا جناية على نفسها في شأنه، وهما مستويان في الجناية على الولد بإضاعة نسبه فهذا الفارق الموهوم ملغى في القياس‏.‏

أما عدم قبول شهادة القاذف في المستقبل فلأنه لما قذف بدون إثبات قد دل على تساهله في الشهادة فكان حقيقاً بأن لا يؤخذ بشهادته‏.‏

والأبد‏:‏ الزّمن المستقبل كله‏.‏

واسم الإشارة للإعلان بفسقهم ليتميزوا في هذه الصفة الذميمة‏.‏

والحصر في قوله‏:‏ ‏{‏وأولئك هم الفاسقون‏}‏ للمبالغة في شناعة فسقهم حتى كأن ما عداه من الفسوق لا يعد فسقاً‏.‏

والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلا الذين تابوا‏}‏ حقه أن يعود إلى جميع ما تقدم قبله كما هو شأن الاستثناء عند الجمهور إلا أنه هنا راجع إلى خصوص عدم قبول شهادتهم وإثبات فسقهم وغير راجع إلى إقامة الحد، بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏من بعد ذلك‏}‏، أي بعد أن تحققت الأحكام الثلاثة فالحد قد فات على أنه قد علم من استقراء الشريعة أن الحدود الشرعية لا تسقطها توبة مقترف موجبها وقال أبو حنيفة وجماعة‏:‏ الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة جرياً على أصله في عود الاستثناء الوارد بعد جمل متعاطفة‏.‏

والتوبة‏:‏ الإقلاع والندم وظهور عزمه على أن لا يعود لمثل ذلك‏.‏ وقد تقدم ذكر التوبة في سورة النساء ‏(‏17‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما التوبة على الله‏}‏ الآيات‏.‏ وليس من شرط التوبة أن يكذب نفسه فيما قذف به عند الجمهور، وهو قول مالك، لأنه قد يكون صادقاً ولكنه عجز عن إثبات ذلك بأربعة شهداء على الصفة المعلومة، فتوبته أن يصلح ويحسن حاله ويتثبت في أمره‏.‏ وقال قوم‏:‏ لا تعتبر توبته حتى يكذب نفسه‏.‏ وهذا قول عمر بن الخطاب والشعبي، ولم يقبل عمر شهادة أبي بكرة لأنه أبى أن يكذب نفسه فيما رمى به المغيرة بن شعبة‏.‏ وقبل من بعد شهادة شبل بن معبد ونافع بن كلدة لأنهما أكذبا أنفسهما في تلك القضية وكان عمر قد حد ثلاثتهم حد القذف‏.‏

ومعنى أصلحوا‏}‏ فعلوا الصلاح، أي صاروا صالحين‏.‏ فمفعول الفعل محذوف دل عليه السياق، أي أصلحوا أنفسهم باجتناب ما نهوا عنه، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا إنما نحن مصلحون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 11‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏160‏)‏‏.‏

وفرع فإن الله غفور رحيم‏}‏ على ما يقتضيه الاستثناء من معنى‏:‏ فاقبلوا شهادتهم واغفروا لهم ما سلف فإن الله غفور رحيم، أي فإن الله أمر بالمغفرة لهم لأنه غفور رحيم، كما قال في آية البقرة ‏(‏160‏)‏‏:‏ ‏{‏إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم‏.‏‏}‏ وإنما صرح في آية البقرة بما قدر نظيره هنا لأن المقام هنالك مقام إطناب لشدة الاهتمام بأمرهم إذ ثابوا إلى الإيمان والإصلاح وبيان ما أنزل إليهم من الهدى بعدما كتموه وكتمه سلفهم‏.‏

وظاهر الآية يقتضي أن حد القذف حق لله تعالى، وهو قول أبي حنيفة‏.‏ وقال مالك والشافعي‏:‏ حق للمقذوف‏.‏ ويترتب على الخلاف سقوطه بالعفو من المقذوف‏.‏

وهذه الآية أصل في حد الفرية والقذف الذي كان أول ظهوره في رمي المحصنات بالزنى‏.‏ فكل رمي بما فيه معرة موجب للحد بالإجماع المستند للقياس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 9‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏6‏)‏ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏7‏)‏ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏8‏)‏ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

هذا تخصيص للعمومين الذين في قوله‏:‏ ‏{‏والذين يرمون المحصنات‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 4‏]‏ فإن من المحصنات من هن أزواج لمن يرميهن، فخُصّ هؤلاء الذين يرمون أزواجهم من حكم قوله‏:‏ ‏{‏والذين يرمون المحصنات‏}‏ إلخ إذ عُذر الأزواج خاصة في إقدامهم على القول في أزواجهم بالزنى إذا لم يستطيعوا إثباته بأربعة شهداء‏.‏

ووجه عذرهم في ذلك ما في نفوس الناس من سجية الغيرة على أزواجهم وعدم احتمال رؤية الزنى بهن فدفع عنهم حد القذف بما شرع لهم من الملاعنة‏.‏

وفي هذا الحكم قبول لقول الزوج في امرأته في الجملة إذا كان متثبتاً حتى أن المرأة بعد أيمان زوجها تكلف بدفع ذلك بأيمانها وإلا قُبِل قوله فيها مع أيمانه فكان بمنزلة شهادة أربعة فكان موجباً حدها إذا لم تدفع ذلك بأيمانها‏.‏

وعلة ذلك هو أن في نفوس الأزواج وازعاً يزعهم عن أن يرموا نساءهم بالفاحشة كذباً وهو وازع التعير من ذلك ووازع المحبة في الأزواج غالباً، ولذلك سمى الله ادعاء الزوج عليها باسم الشهادة بظاهر الاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم‏}‏، وفي نفوسهم من الغيرة عليهن ما لا يحتمل معه السكوت على ذلك، وكانوا في الجاهلية يقتلون على ذلك وكان الرجل مصدقاً فيما يدعيه على امرأته‏.‏ وقد قال سعد بن عبادة «لو وجدت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح»‏.‏ ولكن الغيرة قد تكون مفرطة وقد يذكيها في النفوس تنافس الرجال في أن يشتهروا بها، فمنع الإسلام من ذلك إذ ليس من حق أحد إتلاف نفس إلا الحاكم‏.‏ ولم يقرر جعل أرواح الزوجات تحت تصرف مختلف نفسيات أزواجهن‏.‏

ولما تقرر حد القذف اشتد الأمر على الأزواج الذين يعثرون على ريبة في أزواجهم‏.‏ ونزلت قضية عويمر العجلاني مع زوجه خولة بنت عاصم ويقال بنت قيس وكلاهما من بني عم عاصم بن عدي من الأنصار‏.‏ روى مالك في «الموطأ» عن سهل بن سعد أن عويمراً العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري فقال له‏:‏ يا عاصم أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل‏؟‏ سل لي يا عاصم رسول الله عن ذلك‏.‏ فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فكره رسول الله المسائلَ وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله‏.‏ فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر فقال‏:‏ يا عاصم ماذا قال لك رسول الله‏؟‏ فقال عاصم لعويمر‏:‏ لم تأتني بخير، قد كره رسول الله المسألة التي سألته عنها‏.‏ فقال عويمر‏:‏ والله لا أنتهي حتى أسأله عنها‏.‏ فقام عويمر حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط الناس فقال‏:‏ يا رسول الله أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها‏.‏

قال سهل‏:‏ فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث‏.‏ فكانت هذه الآية مبدأ شرع الحكم في رمي الأزواج نساءهم بالزنى‏.‏ واختلط صاحب القصة على بعض الرواة فسموه هلال ابن أمية الواقفي‏.‏ وزيد في القصة‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ ‏"‏ البينة وإلا حدٌّ في ظهرك ‏"‏‏.‏ والصواب أن سبب نزول الآية قصة عويمر العجلاني وكانت هذه الحادثة في شعبان سنة تسع عقب القفول من غزوة تبوك والتحقيق أنهما قصتان حدثتا في وقت واحد أو متقارب‏.‏

ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم قول سعد بن عبادة عند نزول آية القذف السالفة قال‏:‏ ‏"‏ أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني ‏"‏ يعني أنها غيرة غير معتدلة الآثار لأنه جعل من آثارها أن يقتل من يجده مع امرأته والله ورسوله لم يأذنا بذلك‏.‏ فإن الله ورسوله أغير من سعد، ولم يجعلا للزوج الذي يرى زوجته تزني أن يقتل الزاني ولا المرأة ولذلك قال عويمر العجلاني «من وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل»‏؟‏‏.‏

وحذف متعلق ‏{‏شهداء‏}‏ لظهوره من السياق، أي شهداء على ما ادعوه مما رموا به أزواجهم‏.‏

وشمل قوله‏:‏ ‏{‏إلا أنفسهم‏}‏ ما لا تتأتى فيه الشهادة مثل الرمي بنفي حمل منه ادعى قبله الزوج الاستبراء‏.‏

وقد علم من أحاديث سبب نزول الآية ومن علة تخصيص الأزواج في حكم القذف بحكم خاص ومن لفظ ‏{‏يرمون‏}‏ ومن ذكر الشهداء أن اللعان رخصة منَّ الله بها على الأزواج في أحوال الضرورة فلا تتعداها‏.‏ فلذلك قال مالك في المشهور عنه وآخر قوليه وجماعة‏:‏ لا يلاعن بين الزوجين إلا إذا ادعى الزوج رؤية امرأته تزني أو نفَى حملها نفياً مستنداً إلى حدوث الحمل بعد تحقق براءة رحم زوجه وعدم قربانه إياها، فإن لم يكن كذلك ورماها بالزنى‏.‏ أي بمجرد السماع أو برؤية رجل في البيت في غير حال الزنى، أو بقوله لها‏:‏ يا زانية، أو نحو ذلك مما يجري مجرى السب والشتم فلا يشرع اللعان‏.‏ ويحد الزوج في هذه الأحوال حد القذف لأنه افتراء لا بينة عليه ولا عذر يقتضي تخصيصه إذ العذر هو عدم تحمل رؤية امرأته تزني وعدم تحمل رؤية حمل يتحقق أنه ليس منه‏.‏ وقال أبو حنيفة والشافعي والجمهور‏:‏ إذا قال تحمل لها‏:‏ يا زانية، وجب اللعان، ذهاباً منهم إلى أن اللعان بين الزوجين يجري في مجرد القذف أيضاً تمسكاً بمطلق لفظ ‏{‏يرمون‏}‏‏.‏ ويقدح في قياسهم أن بين دعوى الزنى على المرأة وبين السب بألفاظ فيها نسبة إلى الزنا فرقاً بيناً عند الفقيه‏.‏

وتسمية القرآن أيْمان اللعان شهادة يومئ إلى أنها لرد دعوى وشرط ترتب الآثار على الدعوى أن تكون محققة فقول مالك أرجح من قول الجمهور لأنه أغوص على الحقيقة الشرعية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله‏}‏ إلخ لما تعذر على الأزواج إلفاء الشهادة في مثل هذا الحال وعذرهم الله في الادعاء بذلك ولم يترك الأمر سبهللا ولا ترك النساء مضغة في أفواه من يريدون التشهير بهن من أزواجهن لشقاق أو غيظ مفرط أو حماقة كلف الأزواج شهادة لا تعسر عليهم إن كانوا صادقين فيما يدعون فأوجب عليهم الحلف بالله أربع مرات لتقوم الأيمان مقام الشهود الأربعة المفروضين للزنا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 4‏]‏ إلخ‏.‏

وسمي اليمين شهادة لأنه بدل منها فهو مجاز بعلاقة الحلول الاعتباري، وأن صيغة الشهادة تستعمل في الحلف كثيراً وهنا جعلت بدلاً من الشهادة فكأن المدعي أخرج من نفسه أربعة شهود هي تلك الأيمان الأربع‏.‏

ومعنى كون الأيمان بدلاً من الشهادة أنها قائمة مقامها للعذر الذي ذكرناه آنفاً؛ فلا تأخذ جميع أحكام الشهادة، ولا يتوهم أن لا تقبل أيمان اللعان إلا من عدل فلو كان فاسقاً لم يلتعن ولم يحد حد القذف بل كل من صحت يمينه صح لعانه وهذا قول مالك والشافعي، واشترط أبو حنيفة الحرية وحجته في ذلك إلحاق اللعان بالشهادة لأن الله سماه شهادة‏.‏

ولأجل المحافظة على هذه البدلية اشترط أن تكون أيمان اللعان بصيغة‏:‏ «أشهد بالله» عند الأيمة الأربعة‏.‏ وأما ما بعد صيغة ‏(‏أشهد‏)‏ فيكون كاليمين على حسب الدعوى التي حلف عليها بلفظ لا احتمال فيه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فشهادة أحدهم أربع شهادات‏}‏ قرأه الجمهور بنصب ‏{‏أربعَ‏}‏ على أنه مفعول مطلق ل ‏{‏شهادة‏}‏ فيكون ‏{‏شهادة أحدهم‏}‏ محذوف الخبر دل عليه معنى الشرطية الذي في الموصول واقتران الفاء بخبره، والتقدير‏:‏ فشهادة أحدهم لازمة له‏.‏ ويجوز أن يكون الخبر قوله‏:‏ ‏{‏إنه لمن الصادقين‏}‏ على حكاية اللفظ مثل قولهم‏:‏ «هجِّيرا أبي بكر لا إله إلا الله»‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وحفص وخلف برفع ‏{‏أربعُ‏}‏ على أنه خبر المبتدأ وجملة ‏{‏إنه لمن الصادقين‏}‏ إلى آخرها بدل من ‏{‏شهادة أحدهم‏}‏‏.‏ ولا خلاف بين القراء في نصب ‏{‏أربع شهادات‏}‏ الثاني‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏إنه لمن الصادقين‏}‏ حكاية للفظ اليمين مع كون الضمير مراعى فيه سياق الغيبة، أي يقول‏:‏ إني لمن الصادقين فيما ادعيت عليها‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏والخامسة‏}‏ أي فالشهادة الخامسة، أي المكملة عدد خمس للأربع التي قبلها‏.‏ وأنث اسم العدد لأنه صفة لمحذوف دل عليه قوله ‏{‏فشهادة أحدهم‏}‏ والتقدير‏:‏ والشهادة الخامسة‏.‏ وليس لها مقابل في عدد شهود الزنى‏.‏ فلعل حكمة زيادة هذه اليمين مع الأيمان الأربع القائمة مقام الشهود الأربعة أنها لتقوية الأيمان الأربع باستذكار ما يترتب على أيمانه إن كانت غموساً من الحرمان من رحمة الله تعالى‏.‏

وهذا هو وجه كونها مخالفة في صيغتها لصيغ الشهادات الأربع التي تقدمتها‏.‏ وفي ذلك إيماء إلى أن الأربع هي المجعولة بدلاً عن الشهود وأن هذه الخامسة تذييل للشهادة وتغليظ لها‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏والخامسةُ أن غضب الله عليها‏}‏ بالرفع كقوله‏:‏ ‏{‏والخامسة أن لعنت الله عليه‏}‏ وهو من عطف الجمل‏.‏ وقرأه حفص عن عاصم بالنصب عطفاً على ‏{‏أربع شهادات‏}‏ الثاني وهو من عطف المفردات‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أنّ لعنة الله عليه‏}‏ و‏{‏أنّ غضب الله عليها‏}‏ بتشديد نون ‏(‏أنّ‏)‏ وبلفظ المصدر في ‏{‏أنّ غضب الله‏}‏ وجر اسم الجلالة بإضافة ‏(‏غضب‏)‏ إليه‏.‏ ويتعين على هذه القراءة أن تقدر باء الجر داخلة على ‏{‏أن‏}‏ في الموضعين متعلقة ب ‏{‏الخامسة‏}‏ لأنها صفة لموصوف تقديره‏:‏ والشهادة الخامسة، ليتجه فتح همزة ‏(‏أنّ‏)‏ فيهما‏.‏ والمعنى‏:‏ أن يشهد الرجل أو تشهد المرأة بأن لعنة الله أو بأن غضب الله، أي بما يطابق هذه الجملة‏.‏

وقرأ نافع بتخفيف نون ‏(‏أنْ‏)‏ في الموضعين و‏{‏غضِب الله‏}‏ بصيغة فعل المضي، ورفْع اسم الجلالة الذي بعد ‏{‏غضِب‏}‏‏.‏ وخرجت قراءته على جعل ‏(‏أن‏)‏ مخففة من الثقيلة مهملة العمل واسمها ضمير الشأن محذوف أي تهويلاً لشأن الشهادة الخامسة‏.‏ ورد بما تقرر من عدم خلو جملة خبر ‏(‏أن‏)‏ المخففة من أحد أربعة أشياء‏:‏ قد، وحرف النفي، وحرف التنفيس، ولولا‏.‏ والذي أرى أن تجعل ‏(‏أن‏)‏ على قراءة نافع تفسيرية لأن الخامسة يمين ففيها معنى القول دون حروفه فيناسبها التفسير‏.‏

وقرأ يعقوب ‏{‏أنْ لعنة الله‏}‏ بتخفيف ‏(‏أن‏)‏ ورفع ‏{‏لعنةُ‏}‏ وجر اسم الجلالة مثل قراءة نافع‏.‏ وقرأ وحده ‏{‏أن غضبُ الله عليها‏}‏ بتخفيف ‏(‏أن‏)‏ وفتح ضاد ‏{‏غضب‏}‏ ورفع الباء على أنه مصدر ويجر اسم الجلالة بالإضافة‏.‏

وعلى كل القراءات لا يذكر المتلاعنان في الخامسة من يمين اللعان لفظ ‏(‏أن‏)‏ فإنه لم يرد في وصف أيمان اللعان في كتب الفقه وكتب السنة‏.‏

والقول في صيغة الخامسة مثل القول في صيغ الأيمان الأربع‏.‏ وعين له في الدعاء خصوص اللعنة لأنه وإن كان كاذباً فقد عرض بامرأته للعنة الناس ونبذ الأزواج إياها فناسب أن يكون جزاؤه اللعنة‏.‏

واللعنة واللعن‏:‏ الإبعاد بتحقير‏.‏ وقد تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين‏}‏ في سورة الحجر ‏(‏35‏)‏‏.‏

واعلم أن الزوج إن سمى رجلاً معيناً زنى بامرأته صار قاذفاً له زيادة على قذفه المرأة، وأنه إذا لاعن وأتم اللعان سقط عنه حد القذف للمرأة وهو ظاهر ويبقى النظر في قذفه ذلك الرجل الذي نسب إليه الزنى‏.‏ وقد اختلف الأيمة في سقوط حد القذف للرجل فقال الشافعي‏:‏ يسقط عنه حد القذف للرجل لأن الله تعالى لم يذكر إلا حداً واحداً ولأنه لم يثبت بالسنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام حد الفرية على عويمر العجلاني ولا على هلال بن أمية بعد اللعان‏.‏

وقال مالك وأبو حنيفة‏:‏ يُسقط اللعان حد الملاعن لقذف امرأته ولا يسقط حد القذف لرجل سماه، والحجة لهما بأن الله شرع حد القذف‏.‏

ولما كانت هذه الأيمان مقتضية صدق دعوى الزوج على المرأة كان من أثر ذلك أن تعتبر المرأة زانية أو أن يكون حملها ليس منه فهو من زنى لأنها في عصمة فكان ذلك مقتضياً أن يقام عليها حد الزنى، فلم تهمل الشريعة حق المرأة ولم تجعلها مأخوذة بأيمان قد يكون حالفها كاذباً فيها لأنه يتهم بالكذب لتبرئة نفسه فجعل للزوجة معارضة أيمان زوجها كما جعل للمشهود عليه الطعن في الشهادة بالتجريح أو المعارضة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله‏}‏ الآية‏.‏ وإذ قد كانت أيمان المرأة لرد أيْمان الرجل، وكانت أيمان الرجل بدلاً من الشهادة وسميت شهادة، كانت أيْمان المرأة لردها يناسب أن تسمى شهادة؛ ولأنها كالشهادة المعارضة، ولكونها بمنزلة المعارضة كانت أيْمان المرأة كلها على إبطال دعواه لا على إثبات براءتها أو صدقها‏.‏

والدرء‏:‏ الدفع بقوة، واستعير هنا للإبطال‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويدرؤون بالحسنة السيئة‏}‏ في سورة الرعد ‏(‏22‏)‏‏.‏

والتعريف في ‏{‏العذاب‏}‏ ظاهر في العهد لتقدم ذكر العذاب في قوله‏:‏ ‏{‏وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 2‏]‏‏.‏ فيؤخذ من الآية أن المرأة إذا لم تحلف أيْمان اللعان أقيم عليها الحد‏.‏ وهذا هو الذي تشهد به روايات حديث اللعان في السنة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا نكلت المرأة عن أيمان اللعان لم تحد لأن الحد عنده لا يكون إلا بشهادة شهود أو إقرار‏.‏ فعنده يُرجع بها إلى حكم الحبس المنسوخ عندنا، وعنده إنما نسخ في بعض الأحوال وبقي في البعض‏.‏

والقول في صيغة أيمان المرأة كالقول في صيغة أيمان الزوج سواء‏.‏ وعين لها في الخامسة الدعاء بغضب الله عليها إن صدق زوجها لأنها أغضبت زوجها بفعلها فناسب أن يكون جزاؤها على ذلك غضب ربها عليها كما أغضبت بعلها‏.‏

وتتفرع من أحكام اللعان فروع كثيرة يتعرض بعض المفسرين لبعضها وهي من موضوع كتب الفروع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

تذييل لما مر من الأحكام العظيمة المشتملة على التفضل من الله والرحمة منه، والمؤذنة بأنه تواب على من تاب من عباده، والمنبئة بكمال حكمته تعالى إذ وضع الشدة موضعها والرفق موضعه وكف بعض الناس عن بعض فلما دخلت تلك الأحكام تحت كلي هذه الصفات كان ذكر الصفات تذييلاً‏.‏

وجواب ‏(‏لولا‏)‏ محذوف لقصد تهويل مضمونه فيدل تهويله على تفخيم مضمون الشرط الذي كان سبباً في امتناع حصوله‏.‏ والتقدير‏:‏ لولا فضل الله عليكم فدفع عنكم أذى بعضكم لبعض بما شرع من الزواجر لتكالبَ بعضكُم على بعض، ولولا رحمة الله بكم فقدر لكم تخفيضاً مما شرع من الزواجر في حالة الاضطرار والعذر لما استطاع أحد أن يسكت على ما يرى من مثار الغيرة، فإذا باح بذلك أُخذ بعقاب وإذا انتصف لنفسه أهلك بعضاً أو سكت على ما لا على مثله يغضى، ولولا أن الله تواب حكيم لما رد على من تاب فأصلح ما سلبه منه من العدالة وقبول الشهادة‏.‏

وفي ذكر وصف «الحكيم» هنا مع وصف ‏{‏تواب‏}‏ إشارة إلى أن في هذه التوبة حكمة وهي استصلاح الناس‏.‏

وحذف جواب ‏{‏لولا‏}‏ للتفخيم والتعظيم وحذفه طريقة لأهل البلاغة، وقد تكرر في هذه السورة وهو مثل حذف جواب ‏(‏لو‏)‏، وتقدم حذف جواب ‏(‏لو‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏165‏)‏‏.‏ وجواب ‏(‏لولا‏)‏ لم يحضرني الآن شاهد لحذفه وقد قال بعض الأئمة‏:‏ إن ‏(‏لولا‏)‏ مركبة من ‏(‏لو‏)‏ و‏(‏لا‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي فإن هذه الآيات العشر إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله سميع عليم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 21‏]‏ نزلت في زمن بعيد عن زمن نزول الآيات التي من أول هذه السورة كما ستعرفه‏.‏

والإفك‏:‏ اسم يدل على كذب لا شبهة فيه فهو بهتان يفجأ الناس‏.‏ وهو مشتق من الأفك بفتح الهمزة وهو قلب الشيء، ومنه سمي أهل سدوم وعمورة وأدمة وصبوييم قرى قوم لوط أصحاب المؤتفكة لأن قراهم ائتفكت، أي قُلبت وخسف بها فصار أعلاها أسفلها فكان الإخبار عن الشيء بخلاف حالته الواقعية قلباً له عن حقيقته فسمي إفكاً‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا هي تلقف ما يأفكون‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏117‏)‏‏.‏

و ‏{‏جاءو بالإفك‏}‏ معناه‏:‏ قصدوا واهتموا‏.‏ وأصله‏:‏ أن الذي يخبر بخبر غريب يقال له‏:‏ جاء بخبر كذا، لأن شأن الأخبار الغريبة أن تكون مع الوافدين من أسفار أو المبتعدين عن الحي قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن جاءكم فاسق بنبأ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 6‏]‏؛ فشبه الخبر بقدوم المسافر أو الوافد على وجه المكنية وجعل المجيء ترشيحاً وعدي بباء المصاحبة تكميلاً للترشح‏.‏

والإفك‏:‏ حديث اختلقه المنافقون وراج عند المنافقين ونفر من سذج المسلمين إما لمجرد اتباع النعيق وإما لإحداث الفتنة بين المسلمين‏.‏ وحاصل هذا الخبر‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة بني المصطلق من خزاعة، وتسمى غزوة المريسيع ولم تبق بينه وبين المدينة إلا مرحلة‏.‏ آذن بالرحيل آخر الليل‏.‏ فلما علمت عائشة بذلك خرجت من هودجها وابتعدت عن الجيش لقضاء شأنها كما هو شأن النساء قبل الترحل فلما فرغت أقبلت إلى رحلها فافتقدت عقداً من جَزْع ظَفَارِ كان في صدرها فرجعت على طريقها تلتمسه فحبسها طلبه وكان ليل‏.‏ فلما وجدته رجعت إلى حيث وضع رحلها فلم تجد الجيش ولا رحلها، وذلك أن الرجال الموكلين بالترحل قصدوا الهودج فاحتملوه وهم يحسبون أن عائشة فيه وكانت خفيفة قليلة اللحم فرفعوا الهودج وساروا فلما لم تجد أحداً اضطجعت في مكانها رجاء أن يفتقدوها فيرجعوا إليها فنامت وكان صفوان بن المعطِّل ‏(‏بكسر الطاء‏)‏ السُّلمي ‏(‏بضم السين وفتح اللام نسبة إلى بني سليم وكان مستوطناً المدينة من مهاجرة العرب‏)‏ قد أوكل إليه النبي صلى الله عليه وسلم حراسة ساقة الجيش، فلما علم بابتعاد الجيش وأمن عليه من غدر العدو ركب راحلته ليلتحق بالجيش فلما بلغ الموضع الذي كان به الجيش بصُر بسواد إنسان فإذا هي عائشة وكان قد رآها قبل الحجاب فاسترجع، واستيقظت عائشة بصوت استرجاعه ونزل عن ناقته وأدناها منها وأناخها فركبتها عائشة وأخذ يقودها حتى لحق بالجيش في نحر الظهيرة وكان عبد الله بن أبي بن سلول رأسُ المنافقين في الجيش فقال‏:‏ والله ما نجت منه ولا نجا منها، فراج قوله على حسان بن ثابت ومِسْطح بن أثاثة ‏(‏بكسر ميم مسطح وفتح طائه وضم همزة أثاثة‏)‏ وحَمنة بنت جحش أخت زينب أم المؤمنين حملتها الغيرة لأختها ضرة عائشة وساعدهم في حديثهم طائفة من المنافقين أصحاب عبد الله بن أبي‏.‏

فالإفك‏:‏ علم بالغلبة على ما في هذه القصة من الاختلاق‏.‏

والعصبة‏:‏ الجماعة من عشرة إلى أربعين كذا قال جمهور أهل اللغة‏.‏ وقيل العصبة‏:‏ الجماعة من الثلاثة إلى العشرة وروي عن ابن عباس‏.‏ وقيل في مصحف حفصة «عصبة أربعة منكم»‏.‏ وهم اسم جمع لا واحد له من لفظه، ويقال‏:‏ عصابة‏.‏ وقد تقدم في أول سورة يوسف ‏(‏8‏)‏‏.‏

‏{‏وعصبة‏}‏ بدل من ضمير ‏{‏جاءو‏}‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏لا تحسبوه شراً لكم‏}‏ خبر ‏{‏إن‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ لا تحسبوا إفكهم شراً لكم، لأن الضمير المنصوب من ‏{‏تحسبوه‏}‏ لما عاد إلى الإفك وكان الإفك متعلقاً بفعل ‏{‏جاءو‏}‏ صار الضمير في قوة المعرف بلام العهد‏.‏ فالتقدير‏:‏ لا تحسبوا الإفك المذكور شراً لكم‏.‏ ويجوز أن يكون خبر ‏{‏إن‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم‏}‏ وتكون جملة ‏{‏لا تحسبوه‏}‏ معترضة‏.‏

ويجوز جعل ‏{‏عصبة‏}‏ خبر ‏{‏إن‏}‏ ويكون الكلام مستعملاً في التعجيب من فعلهم مع أنهم عصبة من القوم أشد نكراً، كما قال طرفة‏:‏

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة *** على المرء من وقع الحسام المهند

وذكر ‏{‏عصبة‏}‏ تحقير لهم ولقولهم، أي لا يعبأ بقولهم في جانب تزكية جميع الأمة لمن رموهما بالإفك‏.‏ ووصف العصبة بكونهم ‏{‏منكم‏}‏ يدل على أنهم من المسلمين، وفي ذلك تعريض بهم بأنهم حادوا عن خلق الإسلام حيث تصدوا لأذى المسلمين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم‏}‏ لإزالة ما حصل في نفوس المؤمنين من الأسف من اجتراء عصبة على هذا البهتان الذي اشتملت عليه القصة فضمير ‏{‏تحسبوه‏}‏ عائد إلى الإفك‏.‏

والشر المحسوب‏:‏ أنه أحدث في نفر معصية الكذب والقذف والمؤمنون يودون أن تكون جماعتهم خالصة من النقائص ‏(‏فإنهم أهل المدينة الفاضلة‏)‏‏.‏ فلما حدث فيهم هذا الاضطراب حسبوه شراً نزل بهم‏.‏

ومعنى نفي أن يكون ذلك شراً لهم لأنه يضيرهم بأكثر من ذلك الأسف الزائل وهو دون الشر لأنه آيل إلى توبة المؤمنين منهم فيتمحض إثمه للمنافقين وهم جماعة أخرى لا يضر ضلالهم المسلمين‏.‏

وقال أبو بكر ابن العربي‏:‏ حقيقة الخير ما زاد نفعه على ضره وحقيقة الشر ما زاد ضره على نفعه‏.‏ وأن خيراً لا شر فيه هو الجنة وشراً لا خير فيه هو جهنم‏.‏ فنبه الله عائشة ومن ماثلها ممن ناله همّ من هذا الحديث أنه ما أصابهم منه شر بل هو خير على ما وضع الله الشر والخير عليه في هذه الدنيا من المقابلة بين الضر والنفع ورجحان النفع في جانب الخير ورجحان الضر في جانب الشر اه‏.‏

وتقدم ذكر الخير عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أينما يوجهه لا يأت بخير‏}‏ في سورة النحل ‏(‏76‏)‏‏.‏

وبعد إزالة خاطر أن يكون ذلك شراً للمؤمنين أثبت أنه خير لهم فأتى بالإضراب لإبطال أن يحسبوه شراً، وإثبات أنه خير لهم لأن فيه منافع كثيرة؛ إذ يميز به المؤمنون الخلص من المنافقين، وتشرع لهم بسببه أحكام تردع أهل الفسق عن فسقهم، وتتبين منه براءة فضلائهم، ويزداد المنافقون غيظاً ويصبحون محقرين مذمومين، ولا يفرحون بظنهم حزن المسلمين، فإنهم لما اختلقوا هذا الخبر ما أرادوا إلا أذى المسلمين، وتجيء منه معجزات بنزول هذه الآيات بالإنباء بالغيب‏.‏ قال في «الكشاف»‏:‏‏.‏‏.‏‏.‏ وفوائد دينية وآداب لا تخفى على متأملها اه‏.‏

وعدل عن أن يعطف ‏{‏خيراً‏}‏ على ‏{‏شراً‏}‏ بحرف ‏(‏بل‏)‏ فيقال‏:‏ بل خيراً لكم، إيثاراً للجملة الاسمية الدالة على الثبات والدوام‏.‏

والإثم‏:‏ الذنب وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل فيهما إثم كبير‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏219‏)‏ وعند قوله‏:‏ ‏{‏وذروا ظاهر الإثم وباطنه‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏120‏)‏‏.‏

وتولي الأمر‏:‏ مباشرة عمله والتهمم به‏.‏

‏{‏والكِبر‏}‏ بكسر الكاف في قراءة الجمهور، ويجوز ضم الكاف‏.‏ وقرأ به يعقوب وحده، ومعناه‏:‏ أشد الشيء ومعظمه، فهما لغتان عند جمهور أيمة اللغة‏.‏ وقال ابن جني والزجاج‏:‏ المكسور بمعنى الإثم، والمضموم‏:‏ معظم الشيء‏.‏ ‏{‏والذي تولى كبره‏}‏ هو عبد الله بن أبي بن سلول وهو منافق وليس من المسلمين‏.‏

وضمير ‏{‏منهم‏}‏ عائد إلى ‏{‏الذين جاءو بالإفك‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ الذي تولى كبره حسان ابن ثابت لما وقع في «صحيح البخاري»‏:‏ «عن مسروق قال‏:‏ دخل حسان على عائشة فأنشد عندها أبياتاً منها‏:‏

حصانٌ رزانٌ ما تُزَنُّ بريبة *** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

فقالت له عائشة‏:‏ لكن أنت لست كذلك‏.‏ قال مسروق فقلت‏:‏ تَدَعِين مثل هذا يدخل عليك وقد أنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم‏}‏ فقالت‏:‏ أي عذاب أشد من العمى»‏.‏

والوعيد بأن له عذاباً عظيماً يقتضي أنه عبد الله بن أبي بن سلول‏.‏ وفيه إنباء بأنه يموت على الكفر فيعذب العذاب العظيم في الآخرة وهو عذاب الدرك الأسفل من النار، وأما بقية العصبة فلهم من الإثم بمقدار ذنبهم‏.‏ وفيه إيماء بأن الله يتوب عليهم إن تابوا كما هو الشأن في هذا الدين‏.‏